الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وليس هذا الضمير ضمير القصة والشأن لعدم صلاحية المقام له.ولأنه في الآية مفسَّر بالمفرد لا بالجملة وكذلك في بيت أبي العلاء.ولأن دخول لا النافية عليه يأبى من جعله ضمير شأن إذ لا معنى لأن يقال: لا قصة إلا حياتنا، فدخلت عليه لا النافية للجنس لأنه في معنى اسم جنس لتبيينه باسم الجنس وهو {حياتنا}.فالمعنى ليست الحياة إلا حياتنا هذه، أي لا حياة بعدها.والدنيا: مؤنث الأدنى، أي القريبة بمعنى الحاضرة.وضمير {حياتنا} مراد به جميع القوم الذين دعاهم رسولهم.فقولهم: {نموت ونحيا} معناه: يموت هؤلاء القوم ويحيا قوم بعدهم.ومعنى {نَحْيَا}: نولد، أي يموت من يموت ويولد من يولد، أو المراد: يموت من يموت فلا يَرجع ويحيا من لم يمت إلى أن يموت.والواو لا تفيد ترتيبًا بين معطوفها والمعطوف عليه.وعقبوه بالعطف في قوله: {وما نحن بمبعوثين} أي لا نحيا حياة بعد الموت.وهو عطف على جملة {نموت ونحيا} باعتبار اشتمالها على إثبات حياة عاجلة وموت، فإن الاقتصار على الأمرين مفيد للانحصار في المقام الخطابي مع قرينة قوله: {إن هي إلا حياتنا الدنيا}.وأفاد صوغ الخبر في الجملة الاسميَّة تقوية مدلوله وتحقيقه.ثم جاءت جملة {إن هو إلا رجل افترى على الله كذبًا} نتيجة عقب الاستدلال، فجاءت مستأنفة لأنها مستقلة على ما تقدمها فهي تصريح بما كني عنه آنفًا في قوله: {ما هذا إلا بشر مثلكم} وما بعده من تكذيب دعوته، فاستخلصوا من ذلك أن حاله منحصر في أنه كاذب على الله فيما ادعاه من الإرسال.وضمير {إن هو} عائد إلى اسم الإشارة من قوله: {ما هذا إلا بشر مثلكم}.فجملة {افترى على الله كذبًا} صفة ل {رجل} وهي منصَبّ الحصر فهو من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب إضافيًا، أي لا كما يزعم أنه مرسل من الله.وإنما أجروا عليه أنه رجل متابعة لوصفه بالبشرية في قولهم: {ما هذا إلا بشر مثلكم} تقريرًا لدليل المماثلة المنافية للرسالة في زعمهم، أي زيادة على كونه رجلًا مثلهم فهو رجل كاذب.والافتراء: الاختلاق.وهو الكذب الذي لا شبهة فيه للمخبِر.وتقدم عند قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة المائدة (103).وإنما صرحوا بأنهم لا يؤمنون به مع دلالة نسبته إلى الكذب على أنهم لا يؤمنون به إعلانًا بالتبري من أن ينخدعوا لما دعاهم إليه، وهو مقتضى حال خطاب العامة.والقول في إفادة الجملة الاسميَّة التقوية كالقول في {وما نحن بمبعوثين}.{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)}.استئناف بياني لأن ما حكي من صد الملإ الناس عند اتباعه وإشاعتهم عنه أنه مفتر على الله وتلفيقهم الحجج الباطلة على ذلك مما يثير سؤال سائل عما كان من شأنه وشأنهم بعد ذلك، فيجاب بأنه توجه إلى الله الذي أرسله بالدعاء بأن ينصره عليهم.وتقدم القول في نظيره آنفًا في قصة نوح.وجاء جواب دعاء هذا الرسول غير معطوف لأنه جرى على أسلوب حكاية المحاورات الذي بيَّناه في مواضع منها قوله: {قَالُوا أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها} في سورة البقرة (30).{وعَمَّا قَليلٍ} أفاد حرف عن المجاوزة، أي مجاوزة معنى مُتعلَّقها الاسمَ المجرور بها.ويكثر أن تفيد مجاوزة معنى متعلّقها الاسم المجرور بها فينشأ منها معنى بَعْد نحو {لَتَرْكَبُنّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] فيقال: إنها تجيء بمعنى بَعْد كما ذكره النحاة وهم جروا على الظاهر وتفسير المعنى إذ لا يكون حرف بمعنى اسم، فإن معاني الحروف ناقصة ومعاني الأسماء تامة.فمعنى {عما قليل ليصبحن نادمين}: أن إصباحهم نادمين يتجاوز زمنًا قليلًا: أي من زمان التكلم وهو تجاوز مجازي بحرف عن مستعار لمعنى بَعْد استعارة تبعيَّة.و{ما} زائدة للتوكيد.و{قليل} صفة لموصوف محذوف دل عليه السياق أو فعل الإصباح الذي هو من أفعال الزمن فوعد الله هذا الرسول نصرًا عاجلًا.وندمهم يكون عند رؤية مبدأ الاستئصال ولا ينفعهم ندمهم بعد حلول العذاب.والإصباح هنا مراد به زمن الصباح لا معنى الصيرورة بدليل قوله في سورة الحجر (83) {فأخذتهم الصيحة مصبحين}. {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)}.تقتضي الفاء تعجيل إجابة دعوة رسولهم. والأخذ مستعار للإهلاك. والصيحة: صوت الصاعقة، وهذا يرجح أو يعيِّن أن يكون هؤلاء القرن هم ثمود قال تعالى: {فأما ثمود فأهْلِكوا بالطاغية} [الحاقة: 5] وقال في شأنهم في سورة الحجر (83) {فأخذتهم الصيحة مصبحين} وإسناد الأخذ إلى الصيحة مجاز عقلي لأن الصيحة سبب الأخذ أو مقارنة سببه فإنها تحصل من تمزق كرة الهواء عند نزول الصاعقة.والباء في {بالحق} للملابسة، أي أخذتهم أخذًا ملابسًا للحق، أي لا اعتداء فيه عليهم لأنهم استحقوه بظلمهم.والغُثاءُ: ما يحمله السيْل من الأعواد اليابسة والورق.والكلام على التشبيه البليغ للهيئة فهو تشبيه حالة بحالة، أي جعلناهم كالغثاء في البِلى والتكدس في موضع واحد فهلكوا هَلكة واحدة.وفُرع على حكاية تكذيبهم دعاء عليهم وعلى أمثالهم دعاءَ شتم وتحقير بأن يَبْعَدوا تحقيرًا لهم وكراهية، وليس مستعملًا في حقيقة الدعاء لأن هؤلاء قد بعدوا بالهلاك.وانتصب {بعدًا} على المفعولية المطلقة بدلًا من فعله مثل: تَبًّا وسُحْقًا، أي أتبَّه الله وأسحقه.وعكس هذا المعنى قول العرب لا تبعَد بفتح العين أي لا تفقد.قال مالك بن الريْب:
والمراد بالقوم الظالمين الكافرون {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]. واختير هذا الوصف هنا لأن هؤلاء ظلموا أنفسهم بالإشراك وظلموا هودًا لأنه تعمد الكذب على الله إذ قالوا: {إن هو إلا رجل افترى على الله كذبًا} [المؤمنون: 38].والتعريف في {الظالمين} للاستغراق فشملهم، ولذلك تكون الجملة بمنزلة التذييل.واللام في {للقوم الظالمين} للتبيين وهي مبيّنة للمقصود بالدعاء زيادة في البيان كما في قولهم: سحقًا لك وتبًّا له، فإنه لو قيل: فبُعدا، لعلم أنه دعاء عليه فبزيادة اللام يزيد بيان المدعو عليهم وهي متعلقة بمحذوف مستأنف للبيان. اهـ.
|